في الأيام الأخيرة، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي في لبنان فيديو وثائقي قصير بعنوان “العرّاب”، نُشر عبر صفحة فيسبوك تُدعى “وينيه الدولة“، وهي منصة غير رسمية معروفة بخطابها الشعبوي ونشرها محتوى مثير للجدل. أثار الفيديو جدلًا واسعًا، ليس بسبب ما كشفه، بل بسبب ما افتقر إليه: المصداقية، الأدلة، والنزاهة الإعلامية.
من هو المستهدف؟
يستهدف الفيديو رجلًا يُدعى محمد عادل المقداد، وهو مواطن لبناني متهم بالتعاون مع جهات أجنبية، من ضمنها – كما يدعي الفيديو – شركات إسرائيلية. ولكن بالتمعن في محتوى الفيديو، يتبين أنه يفتقر إلى أي دليل موثوق، ويبدو أقرب إلى حملة تشويه من كونِه تحقيقًا صحفيًا جادًا.
مزاعم صادمة، لكن دون أدلة
يتهم الفيديو المقداد بمعاقبة الزبائن الذين يتخلّفون عن دفع ديونهم، والتعاون مع شركات تكنولوجيا يقال إنها مرتبطة بإسرائيل. لكن كل هذه المزاعم تُطرح دون تقديم وثائق، تحليل رقمي، أو حتى شهادة من مصدر رسمي.
ومن الأمثلة على ذلك، عرض الفيديو صورًا لأشخاص مقيّدين إلى أعمدة في الشوارع، زاعمًا أنهم زبائن عوقبوا من قبل جماعة المقداد. في الواقع، هذه الصور مأخوذة من حوادث مختلفة تمامًا، وقعت أثناء التوترات الأمنية الأخيرة بين لبنان وإسرائيل، حيث قام السكان المحليون بعقاب لصوص ضبطوهم ينهبون المنازل في ظل غياب الأجهزة الأمنية. لم تكن لهذه الصور علاقة بأي عمليات قمار أو نشاط إجرامي مرتبط بالمقداد.
تضليل بصري وخلط في الحقائق
يعتمد الفيديو على لقطات مأخوذة من مناطق وأحداث لا صلة لها بالموضوع، دون توضيح أو دليل يربطها بالمقداد. كما يوجه اتهامًا بالتعاون مع شركة Evolution Gaming، وهي شركة أوروبية مرخّصة في السويد ومالطا وتخضع لقوانين الاتحاد الأوروبي. إدعاء أن الشركة “إسرائيلية” لا يستند إلى أي مصدر أو تحليل تقني.
كذلك، يزعم الفيديو أن المواقع الإلكترونية التي يديرها المقداد مستضافة على خوادم إسرائيلية، لكنه لا يقدّم أي تحليل بيانات أو سجلات إلكترونية تؤكد ذلك. في السياق اللبناني، مثل هذه التهم – إن لم تكن صحيحة – تشكل خطرًا كبيرًا على سلامة الأشخاص.
أزمة إعلامية أعمق
تكشف هذه الحادثة عن أزمة أوسع في البيئة الإعلامية اللبنانية، التي تعاني من غياب التنظيم، الاستقطاب السياسي، وانهيار ثقة الجمهور. منذ الانهيار الاقتصادي في عام 2019 وانفجار مرفأ بيروت في 2020، فقد المواطن اللبناني ثقته بالدولة والإعلام معًا.
في ظل هذا الفراغ، ظهرت منصات غير رسمية مثل “وينيه الدولة” تملأ المشهد بخطاب شعبوي ومحتوى يستند إلى الإثارة بدلًا من المهنية. ورغم أن الصفحة تقدم نفسها كـ”رقابة شعبية على الفساد”، فإن أدائها يُظهر انحيازًا واضحًا واعتمادًا على أساليب التضليل بدلًا من التقصي.
ردة فعل الجمهور: سخرية بدلاً من التصديق
بعكس ما توقّعه صانعو الفيديو، لم يتفاعل الجمهور اللبناني بصدمة أو دعم، بل كانت معظم التعليقات على منشور الفيديو ساخرة أو ناقدة. العديد من المستخدمين تعرفوا على الصور والفيديوهات وأوضحوا أنها مأخوذة من سياقات مختلفة تمامًا. تحوّل قسم التعليقات إلى مساحة للتدقيق وكشف التلاعب، وليس منصة لتأييد الرواية المعروضة
هل أصبحت الصحافة أداة لتصفية الحسابات؟
المثير للقلق أن هذه الحادثة ليست معزولة، بل جزء من ظاهرة آخذة في التوسع داخل لبنان والمنطقة: استخدام الإعلام كأداة لتشويه السمعة وتصفية الحسابات، عبر ما يُعرف بـ”الصحافة المُسلّحة”. مقاطع فيديو تُقدّم على أنها وثائقيات تحقيقية، لكنها في الحقيقة مجرد أدوات دعائية موجهة ضد خصوم سياسيين أو اقتصاديين.
في هذه الحالة، لم يصدر أي تعليق من وزارة الإعلام اللبنانية، ولا من النيابة العامة أو الجهات المسؤولة عن الأمن السيبراني. هذا الصمت قد يكون نتيجة للشلل المؤسساتي أو التواطؤ السياسي أو ببساطة اللامبالاة، ولكن النتيجة واحدة: تفشي التضليل، وتآكل الثقة العامة، وتحوّل الإعلام إلى ساحة مفتوحة للاتهامات غير الموثقة
يبقى السؤال الجوهري: هل وقعت صفحة “وينيه الدولة” ضحية لمعلومات مغلوطة وروّجت لها بسذاجة، أم أنها شريكة في حملة تضليل متعمّدة؟ ما عُرض في الفيديو لا يمكن اعتباره مجرد خطأ غير مقصود. استخدام صور مفبركة، تكرار اتهامات خطيرة دون أي محاولة للتدقيق أو التحقق، وتقديم محتوى مسموم على شكل “وثائقي” محترف الإنتاج، كلها مؤشرات تدفع نحو خيار واحد: تواطؤ متعمد. هذا ليس مجرد إهمال صحفي، بل نموذج فاضح لما يحدث حين تتحوّل المنصات الإعلامية إلى أدوات في يد من يدفع أو يحرّك من خلف الستار. في الحالتين، سواء كانت الصفحة جاهلة أو متورطة، فهي تمثل خطرًا حقيقيًا على الوعي العام…
الخلاصة: حين تُقتل الحقيقة أمام الكاميرا
ما حدث لا يخص فقط محمد عادل المقداد، بل يمسّ جوهر ما تبقى من أخلاق الإعلام في منطقتنا. سواء كان مذنبًا أم بريئًا، لا أحد – مهما كان – يستحق أن يُحاكم أمام عدسة كاميرا على فيسبوك، بلا قاضٍ، ولا دفاع، ولا دليل. نحن أمام جريمة أخطر من التهمة نفسها: جريمة إعدام الحقيقة على الهواء مباشرة، بأيدٍ تدّعي الصحافة وهي تمارس التشويه.
في ظل مؤسسات منهارة، وقضاء صامت، وإعلام مرتزق، أصبح الرأي العام لعبةً في يد من يملك القصة الأجمل لا الحقيقة الأصَح. وأصبح المواطن العربي محاطًا بسيلٍ من الأكاذيب الملمّعة، لا يعرف فيه من يصدّق، ولا إلى من يلتجئ.
تجربة لبنان، بما فيها من فوضى رقمية وخراب مؤسسي، ليست استثناءً… بل نذير شؤم لكل بلدٍ عربي يُطلق العنان للمنصات بلا مساءلة، ويترك الحقيقة وحيدة في وجه ماكينة التضليل. عندما يصبح الكذب أداة، والصمت سياسة، والوعي العام ساحةً مفتوحة للبيع والشراء، تصبح الحقيقة هي الضحية الأولى… وربما الأخيرة..